صلاح الدين حسن
ما إن وقع الانفجار المدو أمام كنيسة القديسين بالإسكندرية حتى برز السؤال العريض .. من تراه قد فعلها؟ وبينما ذهبت غالبية التوقعات في اتجاه القاعدة بناء على سياق ما قبل التفجير، فإن عيون مراقبين كانت قد التفتت متشككة ومرتابة منذ اللحظات الأولى في اتجاه التيارات السلفية المصرية ليس لأن هذه التيارات تتخذ من العنف منهجا، بل لأنها ليست عصية على الاختراقات المنهجية والتنظيمية.
وبعد التفجيرات بأيام قليلة، دعمت الأجهزة الأمنية المصرية تلك الشكوك بعد قيامها بحملة اعتقالات شملت معظم التيارات السلفية، إلا أن حملتها تركزت بشكل كبير على أعضاء بجمعية أنصار السنة المحمدية المشهرة وفق قانون الجمعيات والخاضعة للرقابة الأمنية الصارمة على عكس توقعات المراقبين الذين توقعوا أن تتركز هذه الحملة في صفوف الجماعة السلفية السكندرية ربما كون الحادث قد وقع في قلب معقلها – الإسكندرية – وربما لأن رموزها وشبابها كانا الأكثر نشاطا في حملة التصعيد ضد القيادات الكنسية بعد أزمتي كاميليا شحاته ووفاء قسطنطين (اللتين تردد إسلامهما وأعادتهما السلطات للكنيسة ما أثار موجة غضب شعبية إسلامية) كما أن هذه الجماعة تمتلك منهجا يعد الأكثر تشددا من وجهة نظر السلطات الأمنية المصرية على الأقل.
1 - الجماعة السكندرية والاختراقات
عندما سأل الرجل الثاني في تنظيم القاعدة - أيمن الظواهري - عن موقفه من سلفيي الاسكندرية ومشايخهم ياسر برهامي وسعيد عبدالعظيم ومحمد إسماعيل وهل الخلاف معهم من الخلاف السائغ؟ أجاب الظواهري في شريط صوتي محمل على موقع اليوتيوب: "موقفنا من الدعوة السلفية ومن أعلامها الصادقين هو الحب والتقدير والاحترام".
ثم استطرد الظواهري على الفور بجملة ذات دلالة واضحة: "ونحن اشتقنا لهم واشتاقت لهم ميادين الجهاد يعلمون إخوانهم ويقودون سراياهم ويدكون حصون أعداءهم ويرفعون لواء الجهاد الذي صار عينيا في داخل بلادهم وخارجها".
فشعرة دقيقة، ولكنها حادة، هي التي تفصل منهج الجماعة السلفية السكندرية عن منهج سلفية القاعدة، فالسكندريون كما الجهاديون يؤمنون بعقيدة الحاكمية التي هي من أخص خصائص توحيد الألوهية، وبعدم إسلامية الدولة المصرية القائمة ويؤمنون بكفر حاكمها كفرا حكميا لا عينيا، طالما أنه لايطبق شرع الله وبكفرية المجالس التشريعية كما يؤمنون بالعمل الجماعي التنظيمي وبسرية الدعوة إذا كانت هناك حاجة تدعو إلى ذلك، وبوجوب البيعة لأمير مطاع كنتيجة طبيعية لعدم اعترافهم بأمير مسلم.
ومع ذلك ترفض هذه الجماعة إعلان الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية دون المرور بمراحل الجهاد المختلفة وأولها الدعوة إلى الله وإقامة الحجة كما أنها لا تؤمن بجاهلية المجتمعات وتتبنى استراتيجبة التغيير القاعدي وعدم الاصطدام بالحكومات، ومن ثم فإن البيان الأول من نوعه التي أصدرته الجماعة السكندرية مزيلا بتوقيع ( الدعوة السلفية ) وتدين فيه حادث القديسين كان معبرا بصدق عن موقف قادتهم ومنهج جماعتهم .
ويبدو أن تمتع هذه الجماعة بوحدتي القيادة والمنهج قد عصمها من انزلاق أعضائها في صفوف وتشكيلات تنظيمات وخلايا جهادية، فلا يكاد المراقب للخطاب السلفي السكندري أن يعثر على ثمة خلاف بين قادة هذه الجماعة رغم أنها تتقاطع مع الحياة اليومية والحياتية ولاتكاد تترك قضية إشكالية أو حتى غير إشكالية إلا أبدت رأيها فيها كما أنها تنشغل بالسياسة ويعتكف رموزها على بلورة رؤى سياسية ومجتمعية تجتهد في تمريرها على معايير مصادر التشريع الإسلامي.
كما أن خصائص التنظيم التي مازالت تتمتع به تلك الجماعة جعلها أكثر تحصينا في وجه الاختراقات وقدرة على فرز المنتمين إليها، وكان هؤلاء السلفيون قد حاولوا أن يؤسسوا تنظيما علنيا خارج إطار الدولة الرسمي لكنهم علموا أن النظام لن يسمح فأنشأوا تنظيما سريا كاملا له فروع ومسئولون وذو آلية ونظاما صارما لكن عندما شرع في التوسع فككته الأجهزة الأمنية تحت ضغط الاعتقال ...فظلوا هكذا "شبه تنظيم، شبه تيار، شبه علني، شبه سري!".
2 - أنصار السنة والاختراقات
تعد هذه الجماعة (جمعية أنصار السنة) أكبر تنظيم سلفي عرضه للإختراق المنهجي والتنظمي، فمع أن خطاب الجماعة الرسمي يغرق كثيراً في تفاصيل العقيدة ويعطي اهتماماً لمحاربة البدع، ولا يتطرق كثيراً لقضايا اشكالية في البيئة المصرية مثل قضية الحاكمية كما يبتعد هذا الخطاب تماماً عن السياسة، إلا أن المنهج الكلي للجماعة والذي يقر العمل الجماعي المنظم – بضوابط – والذي تحدث عن وجوب إقامة شرع الله بل الحكم بالكفر على من لا يطبقه جعل من هذه الجماعة إطاراً فضفاضاً سمح بمساحة من العمل تحت لافتتها لجميع التيارات السلفية في مصر تقريباً - من علميين وحركيين ومداخلة - وإن بقيت السيطرة على مفاصل الجماعة للتيار المدخلي المصري، بحكم تماهيه مع الأجهزة الأمنية التي تفرض رقابة صارمة على الجماعة وتتدخل في كثير من تفاصيل حركتها.
وآلية العمل الجماعي عند أنصار السنة يشبه عمل الجمعيات الخيرية الأخرى، فلها مركز عام وجمعية عمومية تنتخب رئيس ومجلس إدارة وهيئة تنفيذية فلا يلزم أن يكون الشخص عضو في جمعية أنصار السنة المحمدية إلا أن يقوم غالبا بإطلاق لحيته ثم يقوم بملأ استمارة عضوية ويستخرج له على إثر ذلك "كارنيه" (بطاقة هوية خاصة) يثبت أنه عضو في هذه الجمعية، ومن ثم فإن التيارات السلفية جميعها قد تداخلت في شبه اختراق لهذه الجمعية، فلابأس من أن تجد التيارات السلفية المتناقضة تعمل في هذه الجماعة من حركيين يكفرون الحاكم ومداخلة يرفضون حتى إبداء النصيحة له في العلن.
ولعل هذا ما يفسر تركيز الحملة الامنية الاخيرة ضرباتها في صفوف المنتمين لهذه الجمعية، رغم أنها مشهرة حسب قانون الجمعيات وتخضع لإشراف وزارة التضامن ورقابة الاجهزة الامنية، إلا أن أعضاء الجمعية لا توحدهم منهجية ولا قيادة واحدة كما هو حال الجماعة السلفية السكندرية، بل تتنازعهم المناهج السلفية ويتفرقون على شيوخها ورموزها في داخل مصر وخارجها.
يؤكد ذلك ويدعمه الصراع الداخلي الذي نشب مؤخراً بين أجنحة الجمعية على إثر صدور كتاب للشيخ عادل السيد بعنوان( الحاكمية والسياسة الشرعية عند علماء أنصار السنة)، اتهم فيه "السلفية السياسية" و"السلفية الجهادية" باختراق المنهج العقائدي لأنصار السنة مستغلين الظرف السياسي المحلي والدولي الذي تمر به البلاد لتشوية سمعة السلفية الحقيقية من خلال تداخل السياسي بالعقائدي بين المنتمين لجماعة أنصار السنة. لقد حاول الشيخ أن ينتزع الاعتراف الرسمي من الجماعة بكتابة واقراره كوثيقة عامة للجماعة، لكنه لم يستطع واحتدم الجدل داخل مجلس ادارة الجماعة نفسه حول الكتاب حتى صدر بيان عن أنصار السنة تبرأت فيه من الكتاب رغم أن الشيخ ختم غلافه بشعار الجماعة واسمها.
وبغض النظر عما قاله الشيخ عادل السيد، إلا أن المتأمل في منهج جماعة أنصار السنة قد لا يتفق مع ما قاله الشيخ وقد ينتهي الى نتيجة أن المنهج الفضفاض للجماعة يسمح بعمل التيارات السلفية وحتى الجهادية ضمن إطارها.
3- السلفية الحركية والجهاد
إذا استبعدنا التيار السلفي المدخلي والمستقل لولاء الأول للدولة والثاني لانسحابه من الحياة العامة واقتصاره على أمور العقيدة ومحاربة البدع، فلن يبقى إلا السلفيون الحركيون الأكثر انتشارا في أحياء القاهرة الفقيرة في شبرا وإمبابة، والأكبر عرضه للإختراقات. ولهم رموز معتبرة في الساحة السلفية المصرية أمثال الشيخ فوزي السعيد ونشأت إبراهيم ومحمد عبدالمقصود، وهؤلاء تحت المراقبة الأمنية الدائمة، كما أنهم لايخفون مباركاتهم لما قامت به القاعدة من تفجيرات في 11 سبتمبر.
فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قام رموز تيار السلفية الحركية بالتبرير في أكثر من محاضرة لهم بالهجوم الذي قامت به القاعدة وامتدح بعضهم أسامة بن لادن ووصفوا الولايات المتحدة الامريكية بالطاغوت الأكبر وأفتوا بأن جهادها كجهاد اسرائيل، وبعدها تعرض هذا التيار بعدها لحصار أمني شديد وتم إعتقال الشيخين نشأت ابراهيم وفوزي السعيد، وقدما مع مجموعة من الشباب السلفيين للقاضاء بتهمة تشكيلهم لتنظيم أطلق عليه ( الوعد )، لكن هناك من يرى أن دور الشيخين لم يتعد الإفتاء لعدد من هؤلاء الشباب بجواز جمع التبرعات وتهريبها للفلسطيين، كما أفتوا بجواز الانتقال للأراضي المحتلة للمشاركة في المقاومة المسلحة هناك وعلى إثر ذلك قام هؤلاء الشباب بجمع عدة تبرعات وهربوها لغزة كما حاولوا التدرب على السلاح بهدف الانتقال لغزة للمشاركة في القتال.
ومع أن الشيخين قد أفرج عنهما بعد عدة سنوات من الاعتقال إلا أن رموز هذا التيار ممنوعون من التعبير عن آرائهم في أي مكان سواء في المساجد أو في الصحف أو الفضائيات .
ومع أن هذه السلفية الحركية ترفض تكوين جماعة خاصة بهم كي لا تزيد افتراق الأمة، لكنها تشجع اتباعها على التعاون مع جميع الجماعات العاملة في الساحة فيما اتفقوا عليه وتعتزلهم فيما تفرقوا فيه وفرقوا الأمة بسببه، ولذلك فلا يرفض هؤلاء السلفيون العمل مع أي جماعة أو تنظيم أراد يقيم دولة الإسلام أو أن يعيد دولة الخلافة ومن هنا تأتي إمكانية إختراقه.
أضف إلى ذلك أن هؤلاء السلفيين لا يكتفون بتكفير الحاكم حكماً فقط ولكن يذهبون إلى تكفيره عينيا إذا لم يحكم بما أنزل الله ويجهرون بذلك في خطابهم الدعوي كما يعتقدون أن مظاهر المجتمعات الاسلامية الآن من تبرج وسفور ومعاصي كلها من أمر الجاهلية لكن لا يكفر بها وأي انحراف عن الشريعة بزيادة أو نقصان فهو أمر الكفر، وماخالف الاسلام فهو جاهلية في الكبيرة والصغيرة وأن الكفر المراد في الآية الكريمة ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون ) يقصد به الكفر الأكبر لا الأصغر.
الخلاصة
إذا كان هذا المقال يفسر الدوافع التي جعلت الأجهزة الامنية المصرية تشن حملة إعتقالات في صفوف السلفيين على إثر حادث تفجيرات كنيسة القديسين، فإن الثابت أن هذه التيارات لا تتبني من العنف منهجا لها رغم أن الأجهزة الأمنية تولدت لديها شكوك في إمكانية إختراق هذه التيارات.
ومن هنا جاء السؤال الرئيسي لهذا المقال: أيا من هذه التيارات يمكن أن يخترق؟ وكانت خلاصة الإجابة مؤداها أن الجماعة السلفية السكندرية هي الأقل عرضه للإختراق مع أنها تتبنى منهجا يعد الأكثر تشددا من بين التيارات السلفية المصرية من وجهة نظر الأجهزة الأمنية على الأقل، وذلك لأن السكندريين مازالوا يملكون خصائص التنظيم ولديهم وحدة في القيادة والمنهج، وتقل هذه الحصانة بشكل أكبر عند جماعة أنصار السنة المحمدية مع انها جمعية معترف بها من الدولة وتخضع لإشرافها كونها لا تخضع المنتمين إليها للفرز والاختبار مما يجعلها عرضة أكبر للاختراق.. وأخيرا تكاد تتلاشى هذه الحصانة عندما نقترب من التيارات السلفية المهلهة وغير المنظمة مثل التيارات السلفية الحركية.
وتبقى الحقيقة على أرض الواقع هي المحك والفيصل، فحتى الآن، الأمر ينحصر في دائرة "الشكوك الأمنية"، وهي دائرة عادة ما تكون واسعة، والفاعل في جريمة الإسكندرية يبقى لليوم لغزا كبيرا..
السبت، 15 يناير 2011
تفجيرات القديسين ... هل يفعلها السلفيون ؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات